جاء في الجزء الأول أن الله ضرب المثل ب لكفار قريش، إذ بعث فيهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وإلى طريق الهدايا والرشاد، فكذبوه وآذووه فيذكرهم بما حدث لأصحاب الجنة.إذ حرمهم من جنتهم أي بستانهم فكان العقاب، عندما طاف عليها طائف من الله وهي الآفة التي أصابت الثمر فجعلته كالصريم.
مكرُ أصحاب الجنة:
وهاهم يصبحون مبكرين كما دبروا، وينادي بعضهم بعضاً لينفذوا ما اعتزموا عليه: "فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَىحَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ"، يذكِر بعضهم بعضاً ويوصي بعضهم بعضاً، ويحمس بعضهم بعضاً.ثم يمضي السياق في السخرية منهم، فيصورهم منطلقين، يتحدثون في همس، زيادة في إحكام التدبير، ليحتجزوا الثمر كله لهم، ويحرموا منه المسكين.
قال تعالي: "فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ"(القلم23،24) وكأنما نحن الذين نسمع القرآن أو نقرأه،نعلم ما لا يعلمه أصحاب الجنة من أمرها، أجل فقد شهدنا تلك اليد الخفية اللطيفة تمتد إليها في الظلام، فتذهب بثمرها كله،ورأيناها كأنما هي مقطوعة الثمار بعد ذلك الطائف الخفي الرهيب، فلنمسك أنفسنا إذن، لنرى كيف يصنع الماكرون المبيتون.
عقاب الله لهم:
قال تعالي:" وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ" (القلم25)، نعم إنهم لقادرون على المنع والحرمان، حرمان أنفسهم على أقل تقدير وهاهميفاجأون.قال تعالي: "فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ" (القلم 26) أي: لما رأوا جنتهم وشاهد ما قد حل بها من الآفة التي أذهبت ما فيها قال بعضهم لبعض: قد ضللنا طريق جنتنا وليست هذه، ثم لما تأملوا وعلموا أنها جنتهم، وأن الله سبحانه وتعالي قد عاقبهم، بإذهاب ما فيها من الثمر والزرع.
قالوا:" بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ" (القلم27) أي حرمنا جنتنا بسبب ما وقع منا من العزم على منع المساكين من خيرها، والآن قد وقع بهم عاقبة المكر والتبييت، وعاقبة البطر والمنع، يتقدم أوسطهم وأعقلهم وأصلحهم، ويبدوا أنه كان له رأي غير رأيهم، ولكنه تابعهم عندما خالفوه وهو فريد في رأيه، ولم يصر على الحق الذي رآه فناله الحرمان والعقاب كما نالهم، ولكنه يذكرهم ما كان من نصحه وتوجيهه:
"قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ"
معناه: ألم أقل لكم سبحوا الله واشكروه علي ما أعطاكم وأنعم به عليكم؟
"قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ"
الآن فقط يسمعون للناصح بعد فوات الأوان، وهل ينفع الندم بعد أن زل القدم؟ وكما يتنصل كل شريك من التبعية، ويتوجه
إلى الآخرين، ها هم يصنعون..
"فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ"
تلاوم أصحاب الجنة:
ثم ها هم يتركون التلاوم ويعترفون جميعاً بالخطيئة أمام العاقبة،عسى أن يغفر الله لهم.
"قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ "(32القلم)
أي: طالبون منه الخير وراجون لعفوه، وقبل أن يسدل الستار علي المشهد الأخير نسمع التعقيب كذلك الابتلاء بالنعمة، فليعلم
المشركون من أهل مكة ولينظروا ماذا وراء الابتلاء، ثم ليحذروا ما هو أكبر من ابتلاء الدنيا وعذاب الدنيا.
" كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ".
وهكذا يسدل الستار علي هذه القصة لنتعلم منها الدروس والعِبر
أولاً: أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذا القدر اليسير من المعصية، دمر الله جنتهم أو (بستانهم)؛ فكيف يكون الحال في حق من عاند
الرسول وأصر على الكفر والمعصية، ومنع الزكاة طوال عمره؟
ثانياً: قال بعض العلماء: على من حصد زرعاً أو جمع ثمره أن يواسي منه من حضره، وذلك معنى قوله تعالي: "وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ"، وأنه غير الزكاة.
ثالثاً: النهي عن الحصاد بالليل:
روي البيهقي عن علي بن أبي طالب قال: إن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" "نهى عن الجذاذ بالليل، والحصاد بالليل".
رابعاً: أن مواساة الفقير وإعطاء المسكين من مال الله الذي عندك، حصن حصين، ودرع واقية من الآفات والبلاء، فالبلاء لا
يتخطى الصدقة.
وفي الحديث الشريف "داووا مرضاكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة".
خامساً: لا يحيق المكر السيء إلا بأهله، "يمكُرون ويمكرُ الله والله خير الماكرين"
فأصابتهم الحسرة والندم بعد ما رأوا بستانهم قد دُمر، فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون يطلبون المغفرة من الله، ولكن بعد
فوات الأوان.