رسمت الشريعة الإسلامية صورة مثالية للعلاقة بين المسلمين وغيرهم من أصحاب العقائد الأخرى، ووضعت تشريعات عادلة تكفل حقوق غير المسلمين وتوثق العلاقات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية معهم وحثت علي ترسيخ مبادئ المواطنة والعيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد؛ بالإضافة إلى إظهار صورة الإسلام الوسطي الصحيح، وإبراز تعالميه السمحة التي شرعها لأتباعه فيما يتعلق بالتعامل مع أهل الكتاب.
ودعا القرآن الكريم إلى بر من يخالفنا في العقيدة، وخاصة أهل الكتاب، حيث يقول الحق سبحانه: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين»، فالله سبحانه وتعالى من خلال هذه الآية الكريمة يجعل العلاقة بين المسلمين وغيرهم، قائمة على أمر أعظم من العدل - الذي هو إعطاء كل ذي حق حقه - حيث ترتقي هذه العلاقة إلى مرحلة الإحسان.
وكشف مفتي الجمهورية أن دار الإفتاء المصرية تتبعت 5000 فتوى في موضوع علاقة المسلمين بغير المسلمين، فوجدت أن النتيجة فيها شيء من التجني على الحقيقة فـ 70% من هذه الفتاوى تحرم من التعامل معهم، و20% على الكراهة، والمباح 10% فقط، مما يدل على فساد منهجهم، ومدى التضييق الشديد لديهم والذي يخالف الشرعية الإسلامية، مؤكدًا أن 90% منها يخالف ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم بحسن التعامل معهم.
وأكد مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، أن مساعدة المسلم لجاره المسيحي في حال إذا طلب الأخير المساعدة، من الأمور التي فُطر الناس عليها، وهى واجب شرعي وإنساني، ومن الطبيعي أن يساعد الإنسان نظيره في الإنسانية أيًّا كان دينه أو لونه أو جنسه، كما أن هذا الفعل يدل على نقاء الفطرة وكرم الأصل.
وأضاف أن من يزعمون أن الإسلام حرم على أتباعه مد يد العون أو مساعدة المخالفين لهم في الدين، يخالفون بآرائهم الشاذة والمتطرفة سنة الله في خلقه التي اقتضت أن يكون الناس مختلفين في الأديان والألوان والأجناس، وينسبون إلى الإسلام أقوالًا ما أنزل الله بها من سلطان، وهو من هذه المزاعم والإدعاءات براء.
وأشار إلى أنه مهما اختلفت أديان الناس، فإن جميعهم إخوة في الإنسانية، والمسلم يثاب من الله تعالى على إحسانه الذي يقدمه لغيره دون تفرقة بين مسلم أو غير مسلم، كما أن مساعدة الآخرين تُعد نوعًا من العبادة، وهي من أعظم أبواب الخير، ولها مكانة عالية جدا في الإسلام الذي جاءت عقائده وشرائعه لإصلاح العلاقة بين العبدوربه، وبين العباد أنفسهم، ولهذا حثت الشريعة الإسلامية على إيصال النفع للآخرين بقدر المستطاع.
يؤكد د. عبدالله النجار أستاذ الشريعة الإسلامية وعضو مجمع البحوث بالأزهر جملة الحقوق التي أقرتها شريعة الإسلام داخل المجتمع الإسلامي، حيث كفلت الشريعة الإسلامية جميع حقوق غير المسلمين مثلهم مثل المسلمين تماما، ولخص فقهاء الإسلام هذه الحقوق في قاعدة ذهبية تلخص عظمة شريعتنا وهي: «لهم ما لنا، وعليهم ما علينا»، أي أن لغير المسلمين وخاصة أهل الكتاب - اليهود والنصارى - الذين يعيشون بيننا ما لنا من الحقوق والحريات، وعليهم بعض الذي علينا من الواجبات، وهذه القاعدة الذهبية تجسد جملة الحقوق التي تبدأ باحترام عقيدتهم، فديننا العظيم في مجال العقيدة يحمل اعترافا مبدئيا بحرية الآخر في الاعتقاد، حتى لو كان اعتقادا فاسدا في التصور الإسلامي.. والمسلم يؤمن بهذا الحق، ويقبل هذا الاختلاف ويتعايش مع الجميع، بمنطق مشروعية الاختلاف الذي أقره القرآن الكريم.
حماية كاملة
ومن هنا كفل الإسلام لغير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي حرية إقامة شعائرهم وحماية دور عباداتهم، حيث أقر حرية الاعتقاد لكل الناس، فلا إكراه لأحد على دخول الإسلام، وإن كان يدعوهم إليه، فالدعوة إلى دخول الإسلام لا تعني أبدا إكراه أحد على ترك دينه واعتناق ديننا، ومنهج الدعوة إلى الإسلام بين المسلمين وغير المسلمين حدده الخالق سبحانه وتعالى في قوله تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن» وقوله عز وجل: «لا إكراه في الدين».
والشريعة الإسلامية - كما يؤكد د. النجار - توفر حماية كاملة لغير المسلمين الذين يعيشون على أرض الإسلام، وهذه الحماية تشمل حماية أرواحهم ودمائهم، حيث جرمت شريعتنا الغراء إلحاق أي أذى أو ظلم بأي إنسان غير مسلم - مواطنا كان أو زائرا - فهو في ذمة المسلمين وعهدهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة»، وهنا قال علماء المسلمين بوجوب حماية غير المسلمين من أي أذى يمس أعراضهم أو ينتقص من كرامتهم، فلا يجوز في ظل تعاليم وأحكام الشريعة الإسلامية التي جاءت لإقرار عدل السماء إلحاق أي أذى بالمسلم أو غير المسلم من شتم أو قذف أو تجريح أو حتى غيبة.
وكما وفرت الشريعة الإسلامية الحماية لأرواح وأعراض غير المسلمين وفرت الحماية الكاملة لأموالهم، وقد بدأت هذه الحماية منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فكان من بين نصوص المعاهدة التي وقعها عليه الصلاة والسلام مع نصارى نجران: «ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير»، وقد سجل تاريخنا الإسلامي صفحات مشرقة من حماية حكام المسلمين لأموال وممتلكات غير المسلمين.
ومن مظاهر العدل والرحمة التي جاءت بها شريعتنا الغراء أن الدولة الإسلامية مطالبة بكفالة الفقراء من غير المسلمين، وتوفير مقومات العيش الكريم لهم، ولذلك قال فقهاء الإسلام: إن المجتمع الإسلامي مطالب بكفالة غير المسلم، وتوفير كل الاحتياجات الضرورية وأحيانا التحسينية له، خاصة عند العجز عن الكسب والعمل، وكانت ضمانات المجتمع المسلم واضحة ضد الفقر والعجز والشيخوخة لكل فئات المجتمع،حيث لا تفريق بين المسلم وغير المسلم.
نهج الرسول والخلفاء
د. عبد المقصود باشا أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر يؤكد أن التاريخ الحضاري الإسلامي حافل بأبهى صور التسامح والعدل والرحمة وكفالة الحقوق والحريات، ويقول: من المآثر التي انفردت بها شريعة الإسلام وتميزت بها حضارة المسلمين شيوع التسامح الديني مع أصحاب الديانات المخالفة من اليهود والنصارى والمجوس والهندوس وغيرهم، وهذا ما سجله التاريخ الإسلامي بوضوح، وما اعترف به المؤرخون والكتاب الأوروبيون وغيرهم ممن أنصفوا الإسلام وأمته وحضارته، موضحا أن مواقف المسلمين المتسامحة مع غيرهم من أصحاب الديانات والعقائد الأخرى جاءت ترجمة لما وضعه القرآن الكريم من أسس ومبادئ وقواعد للتعامل مع غير المسلمين إذا كانوا مسالمين للمسلمين، لم يقاتلوهم في دينهم، ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يظاهروا على إخراجهم.
وقد بدأ هذا العطاء الإسلامي في التعامل الحضاري مع غير المسلمين الذي يشهد بعظمة ورقي شريعتنا - كما يوضح أستاذ التاريخ والحضارة بجامعة الأزهر - منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث وضع صلوات الله وسلامه عليه مواثيق حقوق غير المسلمين، وترجم ما في القرآن من حقوق مجملة لهم، وقد تكفل ليهود المدينة بحقوقهم كاملة وسجل في معاهدته معهم: «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وإثم»، وفي عهد الرسول العظيم أيضا لأهل نجران جاء: «..ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، وليس عليه دنية»، وقد سار خلفاء المسلمين على نهج رسول الله في التسامح والعفو مع غير المسلمين، وها هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأمر قادة جيوشه بعدم التعرض لرجال الدين من غير المسلمين وتركهم يتعبدون في كنائسهم وصوامعهم، والفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعل ذلك وضمن لأهل القدس حرياتهم الدينية وحرمة معابدهم وشعائرهم، بعد أن أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم، وقد بلغ التسامح الديني برسول الله صلى الله عليه وسلم حد السماح لوفد نصارى نجران - وكانوا ستين شخصا - أن يدخلوا مسجده، والإقامة فيه بضعة أيام، فإذا حضرت صلاتهم قاموا متوجهين إلى الشرق على مرأى ومسمع من رسول الله من دون اعتراض منه.
علم وعمل
وإلى جانب حرية العقيدة وحرمة الدماء والأعراض والأموال لم تصادر شريعة الإسلام حقاً من الحقوق الإنسانية والمدنية والسياسية لغير المسلمين، وأبدع الفقهاء في كل العصور في الحديث عن حقوق غير المسلمين العلمية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع الإسلامي، ولم يفرضوا على غير المسلم شيئاً من ثقافة المسلمين الدينية والحياتية، بل تركوا له حرية التعلم والنهل من مشارب الثقافة التي يريدها، ولذلك كان الإنتاج العلمي غزيراً لغير المسلمين الذين عاشوا على أرض الإسلام وفي ظل حمايته في شتى المجالات العلمية، واشتهرت أسماء علماء كثر من اليهود والنصارى وغيرهم ومن هنا مارس غير المسلمين حرية الفكر والتعلم والتعبير، ومنحوا حق تعليم أبنائهم وتنشئتهم وفق مبادئ دينهم، كما أن لهم إنشاء المدارس الخاصة بهم، وهنا يجب على الجميع من مسلمين وغير مسلمين تذكر الموقف المتسامح والراقي من رسول الله عندما أمر برد نسخ التوراة إلى اليهود والتي كانت قد آلت إلى المسلمين مع بعض الغنائم.
والواقع يشهد من كل ما سبق يتضح لنا أن المجتمع الإسلامي يرحب بكل صور التعايش السلمي مع غير المسلمين، ويلتزم في تعاملاته معهم بما قرره القرآن الكريم لهم من حقوق، وما وجه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث نجد رصيداً إنسانياً حضارياً، يحث على البر وحسن الصلة بغير المسلمين.