حكمة اليوم عنوانها: ((إنما أورد عليك الوارد لتكون به عليه واردًا))، والوارد يعني الأوراد والأذكار التى يقولها المسلم صباحًا ومساءً، إنما أورد عليك الوارد لتكون به عليه - يعني الله جل جلاله - واردًا، يعني لن تستطيع أن ترد أبواب رحمة الله عزّ وجلّ إلا إذا كانت لك أوراد تعتزّ بها وتحافظ عليها، وتتعلمها من هدى النبى صلى الله عليه وعلى آ له وصحبه وسلم.
وهذه الأوراد هى التى يتغذى بها القلب، وتسعد بها النفس، ويتعلق بها الفؤاد، ومقصود الإمام الشيخ رحمه الله، أن الإنسان صاحب الأوراد صاحب ورود، وورود بالدال: يعني صاحب ورود بأن يُذكر اسمه، وأن يردد اسمه في الملأ الأعلى.
مما أجمعت عليه الأحاديث الشريفة أن "لا إله إلا الله" لا منتهى لها دون عرش الرحمن، فتصعد وتصعد حتى تدور حول العرش، فتقول حملة العرش لمن هذه؟ فيقولون إنها لفلان فيُذكر اسم فلان عند حملة العرش، هذا معنى الإ نسان صاحب الأوراد.
المسألة الثانية سلمكم الله تعالى وأحبكم: ((من ليس له ورد ليس له وارد))، يعني اعتاد الناس أن دعاء الله يكون فى حالة الشدة، وأنهم لا يدعون الله تعالى في حالة الرخاء، إذا كان الإنسان منا في مصيبة، أو في مأساة فإنه يشدد في الدعاء ويبالغ في الدعاء، وإذا كان الإنسان قد أزيح عنه الهم، وذهب عنه الكرب فإن عليه أن يواصل السجية الإيمانية التى كان عليها في حالة الشدة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: ((من سرّه أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد فليكثر من الدعاء عند الرخاء)) إذًا أيها الأحباب الكرام من ليس له ورد ليس له وارد، وبتعبيرى أنا: من ليس له دندنة فإنه ليس معروفًا في الملأ الأعلى.
من أسرار استجابة الدعاء، أيها السادة الكرام أن الإنسان إذا دعا فإن الملائكة تؤمِّن على دعائه، فيكون هذا بابًا من أبواب الإجابة التي لا يعرفها إلا من توافرت عنده شروط صحة الدعاء التى جاءت في الكتاب والسنه، ثم إن كل سماء لها سكان، وسكان هذه السماوات من الملائكة يستغفرون للذين آمنوا، ويدعون للذين آمنوا، فإذا كان الإنسان يدعو ويخلص بالورد المعتاد عنده في الدعاء، وله دندنة، فإن الملائكة تؤمّن على دعائه حتى يستجيب الله تعالى لهم والقرآن أثبت هذه الحقيقة في سورتي: { الشورى - وغافر }، وفى هذا تفاصيل كثيرة في باب آخر من أبواب العلم وهو مؤازرة الملائكة للمؤمنين.
مازال الشيخ يعلمنا "إنما أورد عليك الوارد" يعني المولى سبحانه وتعالى يعطيك الحكمة فى الالتزام بهذه الأوراد لتكون بها واردًا على الله سبحانه وتعالى، هذه الأوراد يقولها المسلم بعد كل صلاة، ويقولها المسلم فى حله وفي ترحاله، وعند ذهابه إلى منامه، هذه أوراد وكل ورد من هذه الأوراد التى يتعلق بها المسلم تترك أثرًا له فى يقظته ومنامه، فمن ألف أذكارًا معينة يذكرها فى اليقظة، عندما ينام فإن قلبه سيستمر في الذكر الذي كان يدعو به حال يقظته. قال رجل للنبى صلى الله علسه وسلم: إنى لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، ولكنى أدعو بهذا الدعاء" اللهم إنى أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار" فقال صلى الله عليه وسلم: "حولها ندندن". وكان من دندنة النبى صلى الله عليه وسلم "ربِّ اغفر وارحم وتجاوز عن ما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم" وكان الاستغفار: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" دندنةً للنبى صلى الله عليه وسلم، وكان "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" دندنةً له صلى الله عليه وسلم، لا حرج أن يستغفر الله تعالى في المجلس الواحد سبعين مرة أو مائة مرة، أو يزيد على هذا بأبى أنت وأمى يا رسول الله، فقد قال: "إنه لا يُران على قلبي، وإني لأستغفر الله تعالى في اليوم الواحد أكثر من سبعين مرة" هذا كلام الحبيب صلى الله عليه وسلم.
لازال الشيخ الأستاذ يعلمنا "إنما أورد عليك الوارد" يعني إذا أراد الله تعالى بعبد خيرًا علمه هذا الذكر، معنى الوارد هو أن يكون لك ورد دون أن تفنى حياتك في القيل والقال، وهتك أعراض الناس، والكلام في الفن، والكلام في كرة القدم، والكلام في الأسعار، والكلام في الدنيا ومتاعها الزائل. إذًا أنت لك أوراد تشغل بها وقتك، وهذه الأوراد يرى الشيخ في التفاسير أنها حياة القلوب، فأى إنسان ليس له ورد فهو مثل الشجرة التى زرعها صاحبها ونسي أن يرويها فماتت تمامًا.
من هجر كتاب الله سبحانه وتعالى هُجر، ومن غفل عن كتاب الله فلن يتقدم أبدًا،: { وَقَالَ الرَّسُول يَا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُورًا} والمعنى أنهم لا يهتدون بهديه، ولم يواظبوا على تلاوته، ولم يملأ القرآن الكريم حياتهم، فكان هجرانًا من ناحية المعنى والمبنى والقراءة وتطبيق القرآن الكريم في نواحى الحياة، فالذي يهجر القرآن يهجر ذكر الله سبحانه وتعالى، لأن القرآن هو الذي يمدّك بأسباب الذكر، وهو الذي يمدك بالذي ينبغى أن تذكر به الله عز وجل، انظر مثلًا: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} "صلُّوا" هذه وِرد من الأوراد التى قال عنها الشيخ الإمام "إنما أورد عليك الورد لتكون به عليه واردًا" إذًا الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم من أهم الأوراد التي لها تأصيل وتأسيس في كتاب الله سبحانه وتعالى، لأن القرآن الكريم ذكرها بالتأكيد: {يا أيها الذين آمنوا} انظر؛ القرآن الكريم دائمًا يستحث فيك معنى الإيمان لكى تعيش معنى الاتصال بالرحمن: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ليس هذا كافيًا ولكن يعطيك وردًا آخر يضاف إليه: {صلوا عليه وسلموا تسليمًا} (سورة الأنبياء)، وسورة الأنبياء عبارة عن أوراد وأدعية للأنبياء والرسل، فالذي يريد أن يعرف تأسيس الأوراد والأدعية القرآنية الثابتة التى اعتادها الأنبياء، وألفها الأنبياء، عليه أن يحفظ سورة الأنبياء سيجد معينًا ليس له نهاية.
لازال الشيخ الأستاذ يعلمنا "إنما أورد عليك الوارد لتكون به عليه واردًا" تكون به عليه واردًا أى أن الإنسان يجب عليه أن يكون له أذكار معينة. "خالد بن معدان" كان أستاذًا في التسبيح، وذكر عنه بن رجب الحنبلى السلفى فى تفسير حديث جميل ختم به كتابه (جامع العلوم والحكم) قول النبى صلوات ربي وسلامه عليه لهذا الرجل الذي اشتكى إليه تبعة الإسلام وكثرة مسائله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله" الأوراد ترطيب للسان، يقول بن رجب الحنبلي السلفى عن بن معدان أنه كان أستاذًا في الذكر، وأخذ بن رجب يشيد بهذا الرجل ولقد تكلم بن القيم عنه كثيرًا، وقد كان علمًا بارزًا من أعلام الموحدين والذاكرين، ثم ذكر بن رجب الحنبلى أن خالد بن معدان رحمه الله قد مات وقبض ولازال يسبح ولازال يشير بإصبعه كما لوكان حيًّا، وقد حاول هؤلاء الذين تكفلوا بتكفينه ودفنه إرخاء إصبعه فلم يتمكنوا، يعني ظل ذاكرًا في حياته، وظل ذاكرًا أيضًا بعد موته.
يقول بن عطاء الله السكندرى: "إنما أورد عليك الوارد لتكون به عليه واردًا" أنا إذا لم أُلزم نفسي بأوراد معينة واستغفار معين وصلوات معينة، أشعر بأن لسانى جافّ وغير رطب، أقول ماذا بك يا أحمد؟ فأتذكر قول النبى صلى الله عليه وسلم "لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله تعالى" لن أنسي أيضًا هذه الرواية التى ذكرها أستاذنا بن رجب الحنبلى عن شاب كان يخرج مع قوم للجهاد في سبيل الله تعالى، وبينما هو معهم كان يقول لهم لا تفعلوا شيئًا أنا أتكفل بكم، الذى يريد طعامًا فإني أطعمه، من أراد شرابًا فإنى أسقيه، من أراد كذا فإني أفعل وأفعل .... نصّب نفسه خادمًا لهم، وغلامًا تحت أيديهم وأرجلهم، وكانوا ينامون وهو يقوم على خدمتهم ويعمل وهو يذكر الله، يعني يغسل لهم ملابسهم أكرمكم الله تعالى وهو يسبح، وحينما استيقظوا ذات مرة فإذا به قد مات فهمُّوا في تغسيله، يقول بن رجب: فوجدوا مكتوبًا أعلى ذراعه الأيمن "هذا رجل من أهل الجنة" فظنّ الناس أنها مكتوبة كتابة بشرية فإذا هي منسوجة في عظامه. هذا معنى "إنما أورد عليك الوارد لتكون به عليه واردًا" وهذا الكلام الجميل العذب الذي نحتاج إليه كى ترتوي به حياتنا له تكملة بإذن الله عزّ وجلّ، كنا معكم في هذه الحكمة العطائية الجميلة التى كان عنوانها: "إنما أورد عليك الوارد لتكون به عليه واردًا". {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. ((يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرً))