يسعدني أن أستضيفكم معى في معية الحكم، ألتقي مع حكمة تراثية جديدة وعنوانها بفضل الله الملك "لا تصحب إلا من ينهض بك حاله، ويدلك على الله مقاله" تلك الحكمة من روائع الإمام الشيخ بن عطاء السكندري، وهذه الحكمة مدرسة كبيرة جعلتني أصدر إصدارًا مؤثرًا في حياتي بعنوان "ابحث عن معلم " وكان الباعث على إصداره هذه المقولة التي قالها الشيخ وتأثرت بها في حياتي كلها، وهي جميلة فريدة لأنها مستقاة ومأخوذة من هدي الكتاب والسنة.
"لا تصحب إلا من ينهض بك حاله" القرآن الكريم يقول في هذا الصدد: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} الله أكبر إذًا القرآن يعطينا مؤشرات على نوعين، النوع الأول: من نصاحب؟ ولا نصاحب من؟ قال في باب المصاحبة: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} هذا الذى ينهض بك حاله، ينهض بك، الأستاذ المعلم الشيخ المربي الذى يعلم الناس، ويعلم الأجيال، ويعلم الأمة، ليس بالضرورة أن يتكلم كثيرًا، ولكن عمله وحاله يعبر أكثر من الكلام، فعندما ينطق ينطق بالبيان، وعندما يتحدث يتحدث من معين الرحمن، من الكتاب والسنة، هذا الذي ينهض بك حاله، لو كان حال سيدنا موسى وصل لمرحلة الارتقاء ما بحث موسى عن معلم، لكن موسى عليه السلام أراد أن يعلو ويعلو فى مراتب العلم فبحث عن معلم ينهض به حاله، وكان المعلم هو الخضر عليه السلام الذى نهض بحال سيدنا موسي، وأعطاه علومًا عظيمة ما تصور موسي الكليم أن أحدًا على وجه الأرض له الحال وله المرتبة التي عليها الخضر عليه السلام، ولكي يصل سيدنا موسي لهذا الرجل قطع مسافات طويلة من أميال وكيلومترات كلها حب وشوق حتى وصل إليه، دائمًا كنت وأنا صغير ولازلت صغيرًا أقول: ابحث عن معلم، لا بد لكل واحد منا أن يكون له أستاذ يربيه وينميه ويتعهده ويرشده، هذا منهج الكتاب والسنة في هذا الإطار.
حتى الإنسان على الأقل إذا لم يكن له أستاذ، ولم يكن له معلم رباني يجالس الطيبين الذين تعملوا من الطيبين أيضًا، إذا رأيت شيخك مقصرًا أو متهاونًا فابتعد عنه، فلا بد أن ينهض حاله بك، هذا كلام الشيخ، لا تصحب إلا من ينهض بك حاله، ليس شرطًا أن يعطيك كل يوم دروسًا ومواعظ، ولكن إشراقاته الإيمانية، وحضوره القلبي هذا هو الذي ينهض بك، فإذا لم تتأثر به وبعمله وبحياته وبعبادته وطول خشوعه وانشغاله بالله تعالى، ووجدت منه بخلاف هذا أنه مشغول بالدنيا، ومشغول بالمال، ومشغول بكذا وكذا، إذًا وجب عليك أن تتركه تمامًا، يقول سبحانه وتعالى في بيان قرآني مؤثر: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا }28( الكهف).. ما هذا الجمال لا تطعه طالما أنه بعيد عن الله، ليس له عليك سلطان حتى ولو كان أستاذًا لك، لكن الأستاذ الذى يقربك من الله، ويعرفك بالله هذا هو الأستاذ المطلوب الأستاذ المربي، أيها الأحباب هذا المعلم هو الذي يرتقي بك من حال إلى حال، أنت تصلي ولكن عندما تعرفت على هذا الأستاذ أصبحت صلاتك لها طعم، أنت تذكر الله لكن عندما تعرفت عليه أصبح الذكر له أحساس وله معنى، أنت تقرأ القرآن كل يوم ولكن لما تعرفت عليه علمت أن القرآن له حضور قلبى معين وله نفسية راضية تقبل أحكامه وإقامة معانيه
كنت قبل هذا غافلًا عن هذه المعاني لا تصحب إلا من ينهض بك حاله ويدلك على الله مقاله، نعم يدلك على الله يعني على مقام الله تعالى، هؤلاء الكبار الذين نتكلم عنهم الآن وفي معية الحبيب، ليسوا فقط من أهل الحكم، بل أعطاهم الله ينابيع الحكم، كنت أقرأ للحكيم الترمذي أستاذى الذى عاش أيام الإمام بن إسماعيل البخاري، والحكيم الترمذى بخلاف الإمام الترمذى صاحب السنن، والحكيم الترمذي قال عنه البخاري: إذا جلست إليه كأنه يتكلم بكلام الأنبياء، ولم أرَ أعلم منه على وجه الأرض، الحكيم الترمذى هذا من الذين نهضوا بحالي أنا شخصيًا رغم تقادم العهد بيني وبينه، وجدت فيه ربانية لم أجدها فى غيره، وجدت فيه قلبًا يقرأ ويجلس ويعطي الدروس لأبنائه وتلاميذه من بعد صلاة الفجر إلى صلاة المغرب، كأنه يتكلم من كتاب أمامه مفتوح من الملأ الأعلى، علم زائد، ونور وافر، هذا هو الذى يدلك على الله مقاله، إذًا حاله عال ومقاله أعلى، إذا تكلم لا نشبع منه، ولو سكت لا نشبع من النظر إليه، إذا تكلم حضرت الملائكة، وإذا سكت حلت البركة على المكان.
تلك هى النوعية التى يحدثنا عنها الإمام الشيخ، لا تصحب إلا من ينهض بك حاله، معنى الصحبة يعني لا تعايش ولا تعاشر من الناس إلا من يغير حالك إلى الأفضل ، مثلًا شخص قبل الزواج كان ملتزمًا مطيعًا لله عز وجل ولكنه بعد الزواج غرق فى وحل المعاصى، وغاص فى لجج الفتن، لأنه تزوج بزوجة لا تعرف الله طرفة عين، كل همها فى الدنيا، الاهتمام بأمور تافهة من ملذات الدنيا ومتاعها، وترك الصلاة وترك الذكر وترك العبادة فأوقعته في المحرمات، وتبدل حاله، وانقلب أمره رأسًا على عقب.
أما الآخر قبل الزواج لم يكن متدينًا ولا يعرف الصلاة ولا الذكر ولا العبادة، فتزوج امرأة صالحة، فصار يقوم الليل وتغير حاله وتغيرت حياته وتغير وجهه وأصبحت حياته لها قيمة عظيمة.
لا تصحب إلا من ينهض بك حاله.
كثير من أبناءنا كانوا ملتزمين في بلادنا فلما سافروا إلى أوربا أو إلى بلاد أخرى وصحبوا أهل هذه البلاد تغيرت أخلاقهم، ونقضوا عهودهم مع الله تعالى، وتاهوا في دروب الحياة، وغيرهم عندما ذهبوا إلى هذه البلاد شاهدوا بعض الصالحين من أبناءنا الذين ذهبوا من فترات بعيده فالتزموا واهتدوا بهدى النبى صلى الله عليه وسلم.
في قناة الفتح ذات مساء جاءتني مكالمة من أمريكا: قالت الأخت فاطمة يا شيخنا أنا ألتزم في أمريكا أكثر من التزامي في مصر، أنا أجد في أمريكا شبابًا يساعدونني فى الحفاظ على الصلاة، أذهب إلى المركز الإسلامي فأرى أشخاصًا وجوههم مملوءة بالنور، إذا لم أصل الفجر أجد من يسأل عني، وعندما آتى إلى مصر الحياة تأخذنا، والملاهى تغرينا، والتليفزيون وغير ذلك من مباهج الدنيا.
المكان سلمكم الله تعالى يتميز بالناس الموجودين به، لا تصحب إلا من ينهض بك حاله، إذا ذهبت إلى مكان ووجدت نفسك فيه ملتزمًا ومحافظًا على الفرائض والسنن، تشبث بهذا المكان، وحافظ عليه وإذا ذهبت إلى مكان وجدت فيه قليلًا من المعصية فانج بنفسك من هذا المكان، وفرّ من هذا المكان، وابتعد عن هذا المكان.
يقول النبى صلى الله عليه وسلم:
((إِنَّمَا مَثَلُ الجليس الصالحُ والجليسُ السوءِ كحامِلِ المسك، ونافخِ الكِيْرِ فحاملُ المسك: إِما أن يُحْذِيَكَ، وإِما أن تبتاع منه، وإِمَّا أن تجِدَ منه ريحا طيِّبة، ونافخُ الكير: إِما أن يَحرقَ ثِيَابَكَ، وإِما أن تجد منه ريحا خبيثَة ))
[أخرجه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري]
والحديث له بقية إن شاء الله تعالى، "لاتصحب إلا من ينهض بك حاله، ويدلك على الله مقاله"
أسأل الله العظيم أن يكتبنا وإياكم مع أهل الحكمة والحكم وأن يعلمنا الحكمة {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً }
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(56) ﴾. ( سورة الأحزاب ).
من دروس الحكم الربانية لفضيلة الأستاذ الدكتور / أحمد عبده عوض