أيها الأحباب الكرام عشنا في اللقاء السابق مع الهادين الذين هداهم الله تعالى وهدى بهم الناس من الظلمات إلى النور، وتعرفنا على بعض الشخصيات العظيمة كأمثلة لهؤلاء الهادين، وكان على رأسهم النبى الأعظم صلى الله عليه وسلم، واليوم بمشيئة الله تعالى نتناول مع حضراتكم موضوعًا جديدًا وهو "مع المهديين" وسأستضيف بإذن الله تعالى نخبة عطرة من هؤلاء المهدييين الذين هداهم الله فكانوا هادين مهديين بفضل الله تعالى.
دعونى أيها الإخوة الكرام أبدأ بالصحابى الجليل عثمان بن مظعون رضى الله تعالى عنه وأرضاه.
إذا أردت أن ترتب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق سبقهم الزمني إلى الإسلام فاعلم إذا بلغت الرقم الرابع عشر أن صاحبه هو عثمان بن مظعون..
واعلم كذلك أن ابن مظعون هذا كان أول المهاجرين وفاة بالمدينة.. كما كان أول المسلمين دفنا بالبقيع..
عندما كان الإسلام يتسرّب ضوؤه الباكر االنديّ من قلب الرسول صلى الله عليه عليه وسلم.. ومن كلماته، عليه الصلاة والسلام، التي يلقيها في بعض الأسماع سرًّا وخفية..
كان عثمان بن معظون وحدًا من القلة التي سارعت إلى الله والتفت حول رسوله..
ولقد نزل به من الأذى والضر ما كان ينزل يومئذ بالمؤمنين الصابرين الصامدين..
وحين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القلة المؤمنة المضطهدة بالعافية. آمرا ايّاها بالهجرة إلى الحبشة. مؤثرًا أن يبقى في مواجهة الأذى وحده، كان عثمان بن مظعون أمير الفوج الأول من المهاجرين، مصطحبًا معه ابنه السائب موليّا وجهه شطر بلاد بعيدة عن مكايد عدوّ الله أبي جهل.
وكشأن المهاجرين إلى الحبشة في كلتا الهجرتين... الأولى والثانية، لم يزدد عثمان بن مظعون رضي الله عنه إلا استمساكًا بالإسلام واعتصامًا به..
ومع هذا كله نرى أولئك المهاجرين يبقون على ولائهم العميق للإسلام ولمحمد صلى الله عليه وسلم.. مترقبين في شوق وقلق، ذلك أن اليوم القريب الذي يعودون فيه إلى بلادهم الحبيبة، ليعبدوا الله وحده، وليأخذوا مكانهم خلف رسولهم العظيم.. في المسجد أيام السلام.. وفي ميدان القتال، إذا اضطرتهم قوى الشرك للقتال..
إذًا في الحبشة عاش المهاجرون آمنين مطمئنين.. وعاش معهم عثمان بن مظعون الذي لم ينس في غربته مكايد ابن عمّه أمية بن خلف، وما ألحقه به وبغيره من أذى وضرّ، فراح يتسلى بهجائه ويتوعده:
تريش نبالا لا يواتيك ريشها وتبري نبالا، ريشها لك أجمع
وحاربت أقواما مراما أعزة وأهلكت أقواما بهم كنت تزرع
ستعلم إن نابتك يوما ملمّة وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع
وبينما المهاجرون في دار هجرتهم يعبدون الله، ويتدارسون ما معهم من القرآن، ويحملون برغم الغربة توهج روح منقطع النظير.. اذ الأنباء تواتيهم أن قريشًا أسلمت، وسجدت عند الرسول لله الواحد القهار..
هنالك حمل المهاجرون أمتعتهم وطاروا إلى مكة تسبقهم أشواقهم، ويحدوهم حنينهم..
بيد أنهم ما كادوا يقتربون من مشارفها حتى تبيّنوا كذب الخبر الذي بلغهم عن إسلام قريش..
وساعتئذ سقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد عجلوا.. ولكن أنّى يذهبون وهذه مكة على مرمى البصر..!!
وقد سمع مشركو مكة بمقدم الصيد الذي طالما ردوه ونصبوا شباكهم لاقتناصه.. ثم ها هو ذا الآن، تحيّن فرصته، وتأتي به مقاديره..!!
كان الجوار يومئذ تقليدا من تقاليد العرب ذات القداسة والإجلال، فإذا دخل رجل مستضعف جوار سيّد قرشي، أصبح في حمى منيع لا يُهدر له دم، ولا يضطرب منه مأمن...
ولم يكن العائدون سواء في القدرة على الظفر بجوار..
من أجل ذلك ظفر بالجوار منهم قلة، كان من بين أفرادها عثمان بن مظعون الذي دخل في جوار الوليد بن المغيرة.
وهكذا دخل مكة آمنا مطمئنا، ومضى يعبر دروبها، ويشهد ندواتها، لا يسام خسفا ولا ضيما.
ولكن ابن مظعون.. الرجل الذي يصقله القرآن، ويربيه محمد صلى الله عليه وسلم، يتلفت حواليه، فيرى إخوانه المسلمين من الفقراء والمستضعفين، الذين لم يجدوا لهم جوارًا ولا مجيرًا.. يراهم والأذى ينوشهم من كل جانب.. والبغي يطاردهم في كل سبيل.. بينما هو آمن في سربه، بعيد من أذى قومه، فيثور روحه الحر، ويجيش وجدانه النبيل، ويتفوق بنفسه على نفسه، ويخرج من داره مصمما على أن يخلع جوار الوليد، وأن ينصو عن كاهله تلك الحماية التي حرمته لذة تحمل الأذى في سبيل الله، وشرف الشبه بإخوانه المسلمين، طلائع الدنيا المؤمنة، وبشائر العالم الذي ستتفجر جوانبه غدا ايمانا، وتوحيدا، ونورا..
لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء. وهو يغدو ويروح في أمان الوليد بن المغيرة، قال: والله إن غدوّي ورواحي آمنًا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى ما لايصيبني، لنقص كبير في نفسي..
فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له:
يا أبا عبد شمس وفّت ذمتك. وقد رددت إليك جوارك..
فقال له:
لم يا ابن أخي.. لعله آذاك أحد من قومي..؟
قال.. لا. ولكني أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره...
فانطلق إلى المسجد فاردد عليّ جواري علانية ..
فانطلقا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان..
قد جاء يردد عليّ جواري..
قال عثمان: صدق.. ولقد وجدته وفيّا كريم الجوار، ولكنني أحببت ألا أستجير بغير الله..
ثم انصرف عثمان، ولبيد بن ربيعة في مجلس من مجالس قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فقال عثمان: صدقت..
قال لبيد:
وكل نعيم لا محالة زائل
قال عثمان: كذبت.. نعيم الجنة لا يزول..
فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذي جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم..؟
فقال رجل من القوم: إنّ هذا سفيه فارق ديننا.. فلا تجدنّ في نفسك من قوله..
فرد عليه عثمان بن مظعون حتى سري أمرهما فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فأصابها، والوليد بن المغيرة قريب، يرى ما يحدث لعثمان، فقال: أما والله يا بن أخي إن كانت عينك عمّا أصابها لغنيّة، لقد كانت في ذمة منيعة..
قال عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله.. وإني لفي جوار من هو أعزّ منك وأقدر يا أبا عبد شمس..!!
فقا له الوليد: هلم يا بن أخي، إن شئت فعد إلى جواري..
قال ابن مظعون: لا...
وغادر ابن مظعون هذا المشهد وعينه تضجّ بالألم، ولكن روحه تتفجر عافية، وصلابة، وبشرًا..
ولقد مضى في الطريق إلى داره يتغنى بشعره هذا:
فان تك عيني في رضا الله نالها يدا ملحد في الدين ليس بمهتدي
فقد عوّض الرحمن منها ثوابه ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعد
فإني وإن قلتم غويّ مضلل لأحيا على دين الرسول محمد
أريد بذاك الله والحق ديننا على رغم من يبغي علينا ويعتدي
هكذا ضرب عثمان بن مظعون مثلًا هو له أهل، وبه جدير..
وهكذا شهدت الحياة إنسانا شامخا يعطّر الوجود بموقفه الفذ هذا وبكلماته الرائعة الخالدة. فحُقّ له أن يكون من المهديين.
ذهب عثمان بن مظعون بعد ردّ جوار الوليد يتلقى من قريش أذاها، وكان بهذا سعيدا جدّ سعيد.. فقد كان ذلك الأذى بمثابة النار التي تنضج الإيمان وتصهره وتزكّيه..
وهكذا سار مع إخوانه المؤمنين، لا يروّعهم زجر.. ولا يصدّهم إثخان..!!
ويهاجر عثمان إلى المدينة، حيث لا يؤرّقه أبو جهل هناك، ولا أبو لهب.... ولا أميّة.. ولا عتبة، ولا شيء من هذه الغيلان التي طالما أرّقت ليلهم، وأدمت نهارهم..
يذهب إلى المدينة مع أولئك الأصحاب العظام الذين نجحوا بصمودهم وبثباتهم في امتحان تناهت عسرته ومشقته ورهبته، والذين لم يهاجروا إلى المدينة ليستريحوا ويكسروا.. بل لينطلقوا من بابها الفسيح الرحب إلى كل أقطار الأرض حاملين راية الله، مبشرين بكلماته وآياته وهداه..
وفي دار الهجرة المنوّرة، يتكشفّ جوهر عثمان بن مظعون وتستبين حقيقته العظيمة الفريدة، فاذا هو العابد، الزاهد، المتبتل، الأوّاب...
واذا هو الراهب الجليل، الذكي الذي لا يأوي إلى صومعة يعتزل فيها الحياة..
بل يملأ الحياة بعمله، وبجهاده في سبيل الله..
راهب الليل فارس النهار، بل راهب الليل والنهار، وفارسهما معا..
ولئن كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيّما في تلك الفترة من حياتهم، كانوا جميعا يحملون روح الزهد والتبتل، فان ابن مظعون كان له في هذا المجال طابعه الخاص.. اذ أمعن في زهده وتفانيه امعانا رائعا، أحال حياته كلها في ليله ونهاره الى صلاة دائمة مضيئة، وتسبيحة طويلة عذبة..!!
وما ان ذاق حلاوة الاستغراق في العبادة حتى همّ بتقطيع كل الأسباب التي تربط الناس بمناعم الحياة..
فمضى لا يلبس الا الملبس الخشن، ولا يأكل الا الطعام الجشب..
وحين كانت روحه الطاهرة تتهيأ للرحيل ليكون صاحبها أول المهاجرين وفاة بالمدينة، وأولهم ارتيادًا لطريق الجنة، كان الرسول عليه الصلاة والسلام، هناك إلى جواره..
ولقد أكبّ على جبينه يقبله، ويعطّره بدموعه التي هطلت من عينيه الودودتين فضمّخت وجه عثمان الذي بدا ساعة الموت في أبهى لحظات إشراقه وجلاله..
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم يودّع صاحبه الحبيب:
" رحمك الله يا أبا السائب.. خرجت من الدنيا وما أصبت منها، ولا أصابت منك"..
ولم ينس الرسول الودود صاحبه بعد موته، بل كان دائم الذكر له، والثناء عليه..
حتى لقد كانت كلمات وداعه عليه السلام لابنته رقيّة، حين فاضت روحها:
" الحقي بسلفنا الخيّر، عثمان بن مظعون"..!!! فرضى الله عن عثمان بن مظعون وأرضاه.
دعونى أيها الأحباب أنتقل إلى الباحث عن الحقيقة والباحث عن الهدى "سلمان الفارسى رضى الله عنه".
وقصة إسلامه ـ رضي الله عنه ـ فيها العِبْرة والفائدة، وفيها دلالة واضحة على الضلال الذي ساد العالم كله قبل بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: حدثني سلمان عن نفسه فقال: " كنت رجلًا فارسيًا من أهل أصبهان، من أهل قرية منها يقال لها: جَيُّ، وكان أبي دهقان (رئيس) قريته، وكنتُ أحبُّ خلقِ اللهِ إليه، فلم يزل به حُبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، وأجهدت في المجوسية حتى كنت قاطن (خادم) النار الذي يوقدها، لا يتركها تخبو ساعة، قال: وكانت لأبي ضيعة (بستان) عظيمة، قال: فَشُغِلَ في بنيان له يومًا، فقال لي: يا بني! إني قد شُغِلتُ في بنيان هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فأطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم وسممعت أصواتهم، دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي، ولم آتها، فقلت لهم: أين أَصلُ هذا الدين؟، قالوا: بالشام، قال: ثم رجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي، وشغلتُه عن عمله كلِّه، قال: فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟، ألم أكن عهدتُ إليك ما عهدت؟، قال: قلت: يا أبت! مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بني! ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، قال: قلت: كلا والله، إنه خير من ديننا، قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدًا، ثم حبسني في بيته، قال: وَبَعَثْتُ إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، قال: فأخبروني بهم، قال: فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم، فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟، قالوا: الأسقف في الكنيسة، قال: فجئته، فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك، أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك وأصلي معك، قال: فادخل فدخلت معه، قال: فكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء، اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وَوَرِق (فضة)، قال: وأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمعَت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئًا، قالوا: وما علمك بذلك؟ قال: قلت: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا عليه، قال: فأريتهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وورقًا، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا، فصلبوه، ثم رجموه بالحجارة، ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه بمكانه .
قال: يقول سلمان: فما رأيت رجلًا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه، أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلًا ونهارًا منه، قال: فأحببته حبًا لم أحبه مَن قبله، وأقمت معه زمانًا، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان! إني كنت معك، وأحببتك حبًا لم أحبه أحدًا من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى مَنْ توصي بي؟ وما تأمرني؟، قال: أي بني! والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلًا بالموصِل وهو فلان، فهو على ما كنت عليه فالْحَقْ به .
قال: فلما مات وغُيب، لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، قال: فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه فلم يلبث أن مات، فما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان! إن فلانًا أوصي بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من الله - عز وجل - ما ترى، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟، قال: أي بني! والله ما أعلم رجلًا على مثل ما كنا عليه إلا رجلًا بنصيبين، وهو فلان فالحق به .
قال: فلما مات وغُيب، لحقت بصاحب نصيبين، فجئته فأخبرته بخبري وما أمرني به صاحبي قال: فأقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبثت أن نزل به الموت، فلما حُضِر قلت له: يا فلان! إن فلانًا كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟، قال: أي بني! والله ما نعلم أحدًا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلًا بـعمورية، فإنه بمثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته، فإنه على أمرنا .
قال: فلما مات وغيب، لحقت بصاحب عمورية، وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كان لي بُقَيْرَاتٌ وَغَنَيمَةٌ، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان! إني كنت مع فلان، فأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان بي إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟، قال: أي بني! ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي، هو مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين حرتين ( أرض ذات الحجارة السود ) بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل .
قال: ثم مات وغُيب، فمكثت بـعَمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كَلْبٍ، تُجَّارٌ، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟، قالوا: نعم، فأعطيتهموها، وحملوني، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني، فباعوني من رجل من اليهود عبدًا، فكنت عنده، ورأيت النخل، ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لىِ صاحبي، ولم يحق لي في نفسي، فبينما أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة، فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها .
وبعث الله رسوله فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لَفِي رَأْسِ عِذْقٍ لِسَيِّدِي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال: فلان! قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لمجتمعون بقِباء، على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي، قال: فلما سمعتها أخذتني العُرُواء (برد الحمى)، حتى ظننت أني سأسقط على سيدي، قال: ونزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟! ماذا تقول؟!، قال: فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك، قال: قلت: لا شيء إنما أردت أن أستثبت عما قال، وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بـقباء، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، قال: فقربته إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: ( كلوا، وأمسك يده فلم يأكل، قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه، فجمعت شيئًا وتحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ثم جئت به فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان . ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ببقيع الغرقد، قال: وقد تبع جنازة من أصحابه، عليه شملتان له، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ استدبرته، عرف أني استثبت في شيء وصف لي، قال: فألقي رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تحول، فتحولت، فقصصت عليه حديثي - كما حدثتك - يا ابن عباس! ) .
قال: فأعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسمع ذلك أصحابه، ثم شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حتى فاته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدر وأحد .
قال: ثم قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( كاتِبْ يا سلمان، فكاتبتُ صاحبي على ثلاث مئة نخلة أحييها له بالفقير(أي أغرسها لها ) وبأربعين أوقية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعينوا أخاكم )، فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين ودية (صغار النخل)، والرجل بعشرين، والرجل بخمس عشرة، والرجل بعشر حتى اجتمعت لي ثلاث مئة ودية، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( اذهب يا سلمان! ففقر لها ( احفر لها موضع غرسها )، فإذا فرغت فأتني أكون أنا أضعها بيدي، ففقرت لها، وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معي إليها، فجعلنا نقرب له الودي، ويضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، فوالذي نفس سلمان بيده، ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي علي المال، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي، فقال: ما فعل الفارسي المكاتب؟، قال: فَدُعِيتُ له، فقال: خذ هذه فأدِّ بها ما عليك يا سلمان!، فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما عليَّ؟، قال: خذها، فإن الله - عز وجل - سيؤدي بها عنك، قال: فأخذتها، فوزنت لهم منها - والذي نفس سلمان بيده - أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم، وعتقت، فشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق، ثم لم يفتني معه مشهد ) رواه أحمد .
في قصة إسلام سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ فوائد كثيرة، منها : تأكيد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ضرورة التعاون على البر والتقوى، والتعاون على قضاء الدَيْن عن المدين، وهذا يؤخذ من فعله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم - مع سلمان عندما ساعدوه ليتحرر من الرق، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: ( أعينوا أخاكم ) أي: سلمان .
لقد حفلت سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنماذج رائعة من المهتدين، الذين ارتفعت همتهم في البحث عن الدين الحق، و بذلوا في سبيل ذلك النفس والنفيس، فصاروا مضرب الأمثال، وحجة لله على خلقه، وأكدت على أن من انطلق باحثا عن الحق مخلصا لله تعالى، فإن الله يهديه إليه، ويمنُّ عليه بأعظم نعمة في الوجود نعمة الإسلام، ومن النماذج المشرقة في البحث عن الحق سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ .
وترجع أهمية قصَّة إسلام سلمان ـ رضي الله عنه ـ إلى كونها دليلًا يشهد بصدق نُبُوَّة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد ظل سلمان يبحث عن النبي الحقِّ الذي عَرف صفاته ومناقبه من أحد الرهبان في عَمُّورِيَة، والذي وصف له نبي آخر هذا الزمان قائلا: ( ولكنه قد أظلك زمان نبي، هو مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين حرتين بينهما نخل (المدينة المنورة)، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل )، فوجد سلمان ـ رضي الله عنه ـ هذه الصفات في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فعلم أنه نبيٌّ حقًّا، بل هو خاتم الأنبياء أجمعين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ .
النعمان بن مقرن رضى الله تعالى عنه "شهيد نهاوند"
إنه الصحابي الجليل النعمان بن مقرن - رضي الله عنه- الذي قدم على النبي ( في المدينة مع أربعمائة من قومه مُزَيْنَة، فاهتزت المدينة فرحًا بهم، واستبشر بهم المسلمون، وقد هداه الله للإسلام، وهدى معه أهله وإخوته السبعة.
وقد اشتهر بنو مقرن بحب الله ورسوله (، والإنفاق في سبيل الله عز وجل، والتضحية من أجل دين الله سبحانه، وفيهم نزل قول الحق تبارك وتعالى: { وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 99].
ومنذ أن أسلم النعمان بن مقرن وهو يرفع لواء قومه مجاهدًا بهم في سبيل الله شرقًا وغربًا، فنجده في فتح مكة، وفي الجهاد ضد هوازن والطائف وثقيف، ومحاربة المرتدين ومدِّعي النبوة في عهد الصديق -رضي الله عنه-، ثم يرفع لواء قومه في موقعة القادسية والتي شهدت أروع بطولاته وتضحياته. خاض النعمان بقومه كل هذه الحروب محتسبًا أجره عند الله، وطمعًا في مرضاته، متمنيًا أن ينعم الله عليه بالشهادة في سبيله.
وكان النعمان ليّن الجانب، زاهدًا في الدنيا ومفاتنها، لا يرضى حياة الرفاهية والإمارة، بل يفضل حياة العمل والجهاد، فحين عرض عليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الإمارة على قبيلته، رفض ذلك واعتذر لأمير المؤمنين، ويواصل النعمان رحلة جهاده في سبيل إعلاء كلمة الحق، فكان على رأس الجيش الذي نجح في فتح البصرة ثم الكوفة، وقضى بذلك على وجود الفرس في بلاد العرب.
وجمع يزدجر كسرى فارس آنذاك جيشًا عظيمًا عدده أكثر من مائتي ألف فارس، وجعل من نهاوند قلعة يوجِّه منها سهامه إلى الإسلام، وأصر على محاربة المسلمين والقضاء عليهم، وأحس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بخطورة الأمر، فحشد جيوشه الإسلامية، وأراد أن يقود الجيش بنفسه، إلا أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أشار عليه بأن وجوده في المدينة خير للمسلمين من خروجه، حتى يرعى شئون الأمة الإسلامية التي امتدت أطرافها شرقًا وغربًا، واقتنع الفاروق عمر برأى علي، وقال لمن حوله: أشيروا عليَّ برجل أوليه قائدًا في هذه الحرب، وليكن عراقيًّا، وله خبرة بطرقها ومسالكها.
فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، أنت أعلم لجندك وقد وفدوا عليك. فقال عمر: والله لأولين أمرهم رجلًا يكون أول الأسنة إذا لقيها غدًا. فقالوا: ومن يكون؟ قال عمر: النعمان بن مقرن المزني. قالوا: هو لها يا أمير المؤمنين.
فأمر عمر -رضي الله عنه- النعمان بن مقرن أن يتجه بالجيش إلى نهاوند، ثم أرسل إليه عمر جيشًا آخر بقيادة حذيفة بن اليمان ليكون مددًا وعونًا له، فأصبح عدد الجيش الإسلامي ثلاثين ألف فارس، والتقى بجيش الفرس في حرب شديدة، ظلت يومين لم يستطع أحد أن يحقق النصر على الآخر، وفي اليوم الثالث نجح المسلمون في أن يبعدوا الفرس عن مواقعهم ويدخلوهم خنادقهم وحصونهم ويحاصرونهم فيها.
وطال حصار المسلمين للفرس، ففكر النعمان وجنده في حيلة يخرجون بها الفرس من حصونهم، فأشار طليحة بن خويلد الأسدي -رضي الله عنه- بأن يوهم بعض المسلمين الفرس أنهم قد انهزموا، وينسحبوا من الميدان، فينجذب نحوهم الفرس، ويتركوا مواقعهم، ثم ينقض عليهم الجيش الإسلامي كله مرة واحدة، فيهزموهم بإذن الله.
ونفذ هذه الخطة الحربية القعقاع بن عمرو -رضي الله عنه- مع بعض جنود المسلمين، ونجحت الحيلة، وظن الفرس أن في جيش المسلمين ضعفًا، فخرجوا وراءهم ليقضوا عليهم، فانقض عليهم المسلمون، واندفع النعمان بن مقرن في صفوف الفرس، يقاتل قتالًا شديدًا؛ طامعًا في النصر للمسلمين وفي الشهادة لنفسه، ودعا الله قائلًا: اللهم إني أسألك أن تقرِّ عيني بفتح يكون فيه عز الإسلام، واقبضني إليك شهيدًا.
ونال النعمان أمنيته، فسقط شهيدًا في أرض المعركة، وقبل أن تقع الراية من يده أسرع إليه أخوه نعيم وأخذ الراية منه ليواصل المسلمون جهادهم، ويكتم نعيم خبر استشهاد القائد، ويقوم حذيفة بن اليمان الذي أوصى النعمان له بقيادة الجيش من بعده، فيواصل المسيرة حتى تنتهي المعركة بنصر كبير، أعز الله به الإسلام والمسلمين، وفي جو الفرحة تساءل المسلمون عن قائدهم؟ فأجابهم نعيم قائلًا: هذا أميركم، قد أقر الله عينه بالفتح وختم له بالشهادة.
وصل الخبر إلى المدينة، فصعد عمر المنبر ينعي للمسلمين ذلك البطل الشهيد، ويقول وعيناه تذرفان بالدموع: إنا لله وإنا إليه راجعون، فيبكي المسلمون بالمدينة، ويرتفع صوت عبد الله بن مسعود بالبكاء وهو يقول: إن للإيمان بيوتًا وإن بيت ابن مقرن من بيوت الإيمان.
وهكذا يسجل التاريخ يومًا من أعظم أيام الإسلام، يوم نهاوند سنة (21هـ)، ذلك اليوم الذي استشهد فيه أمير نهاوند، وقائد المسلمين فيها النعمان بن مقرن.
وفي نهاوند، دُفن النعمان يوم الجمعة في سهل ممتد تكسوه الأشجار العالية، ودفن معه مَنْ استشهد في ذلك اليوم الخالد.
الصحابى العظيم عبد الله بن مسعود رضى الله عنه.
إنه عَلَم من أعلام هذه الأمة، وبطل من أبطالها، صحابي جليل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر، هذا الصحابي كان من السابقين إلى الإسلام، أسلم قديمًا، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا والمشاهد كلها، ولازم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان صاحب نعليه وطهوره، وسواكه، ووساده، وسره، وحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكثير، وبعد الهجرة آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن معاذ، وقال عن نفسه: لقد رأيتني سادس ستة، وما على ظهر الأرض مسلم غيرنا، وقال أيضًا: والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أُنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لأتيته، وقال أيضًا: والله لقد أخذت مِنْ فِيْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعًا وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - أني مِنْ أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم.
إنه الإمام الحبر فقيه الأمة عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي المكي المهاجري أبو عبد الرحمن، حليف بني زهرة، كان - رضي الله عنه - رجلًا نحيفًا قصيرًا، شديد الأدمة، قال عنه الذهبي: كان معدودًا في أذكياء العلماء، وقد روى عبد الله الكثير من الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم.
وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبين فضله ومكانته العظيمة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - قال: "قَدِمْتُ أَنَا وَأَخِي مِنَ الْيَمَنِ فَمَكَثْنَا حِينًا ومَا نَرَى ابْنَ مَسْعُودٍ وَأُمَّهُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كَثْرَةِ دُخُولِهِمْ وَلُزُومِهِمْ لَهُ".
وروى البخاري في صحيحه من حديث عبد الرحمن ابن يزيد - رضي الله عنه - قال: سَأَلْنَا حُذَيْفَةَ عَنْ رَجُلٍ قَرِيبِ السَّمْتِ وَالْهَدْيِ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى نَأْخُذَ عَنْهُ؟ فَقَالَ: مَا أَعْرِفُ أَحَدًا أَقْرَبَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ.
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي الأحوص - رضي الله عنه - قال: "شَهِدْتُ أَبَا مُوسَى وَأَبَا مَسْعُودٍ حِينَ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَتُرَاهُ تَرَكَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ؟ فَقَالَ: إِنْ قُلْتَ ذَاكَ، إِنْ كَانَ لَيُؤْذَنُ لَهُ إِذَا حُجِبْنَا وَيَشْهَدُ إِذَا غِبْنَا".
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث علقمة قال: دَخَلْتُ الشَّأْمَ فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا، فَرَأَيْتُ شَيْخًا مُقْبِلًا فَلَمَّا دَنَا قُلْتُ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ اسْتَجَابَ، قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: أَفَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ، وَالْوِسَادِ، وَالْمِطْهَرَةِ، أَوَ لَمْ يَكُنْ فِيكُمُ الَّذِي أُجِيرَ مِنَ الشَّيْطَانِ، أَوَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، كَيْفَ قَرَأَ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ، ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ﴾ [الليل: 1]؟ فَقَرَأْتُ: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ﴾، قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَاهُ إِلَى فِيَّ، فَمَا زَالَ هَؤُلَاءِ حَتَّى كَادُوا يَرُدُّونِي.
وكان - رضي الله عنه - من فقهاء الصحابة وقرائهم، روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، - فَبَدَأَ بِهِ - وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ".
وقد حَصَّلَ - رضي الله عنه - علمًا كثيرًا بملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فروى البخاري في صحيحه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذْنُكَ عَلَيَّ أَنْ يُرْفَعَ الْحِجَابُ، وَأَنْ تَسْتَمِعَ سِوَادِي حَتَّى أَنْهَاكَ".
ومما يدل على علمه وأمانته ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن مسعود- رضي الله عنه - قال: كُنْتُ أَرْعَى غَنَمًا لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: "يَا غُلَامُ هَلْ مِنْ لَبَنٍ؟" قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَلَكِنِّي مُؤْتَمَنٌ، قَالَ: "فَهَلْ مِنْ شَاةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ؟" فَأَتَيْتُهُ بِشَاةٍ، فَمَسَحَ ضَرْعَهَا فَنَزَلَ لَبَنٌ، فَحَلَبَهُ فِي إِنَاءٍ، فَشَرِبَ، وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: "اقْلِصْ"، فَقَلَصَ، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُهُ بَعْدَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، قَالَ: فَمَسَحَ رَأْسِي وَقَالَ: "يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِنَّكَ غُلَيِّمٌ مُعَلَّمٌ".
وقال عمر- رضي الله عنه -: كُنَيْفٌ مُلِىءَ عِلْمًا.
وكان الصحابة يتعجبون من دقة ساقيه، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلته عند ربه، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم -: "مِمَّ تَضْحَكُونَ؟" قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ".
وكان مستجاب الدعوة، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبدالله - رضي الله عنه -: أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَدْعُو، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَدْعُو، فَقَالَ: "سَلْ تُعْطَهْ"، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجَنَّةِ، جَنَّةِ الْخُلْدِ.
ومن أقواله العظيمة: أنه كان يقول: "حَبَّذَا المَكرُوهَانِ: المَوتُ وَالفَقرُ، إِن كَانَ الفَقرُ إِن فِيهِ الصَّبرُ، وَإِن كَانَ الغِنَى إِن فِيهِ لَلعَطفُ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا وَاجِبٌ".
ومنها أنه كان يقول إذا قعد: "إنكم في ممر الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، من زرع خيرًا يوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شرًا يوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مِثلُ ما زرع، لا يَسبقُ بطيء بحظه، ولا يُدرِكُ حريص ما لم يُقدَّر له، فمن أُعطي خيرًا، فالله أعطاه، ومن وُقي شرًا، فالله وقاه، المُتَّقُون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة".
وكان يقول: "من أراد الآخرة أضرَّ بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضرَّ بالآخرة، يا قوم فأَضروا بالفاني للباقي".
وكان يقول: "إني لأكره أن أرى الرجل فارغًا، ليس في عمل آخرة ولا دنيا".
ولما مرض عبد الله عاده عثمان فقال: "مما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاء، قال: لا حاجة لي فيه".
قال ابن حجر، وعند البخاري في تاريخه بسند صحيح من حديث ابن ظهير، قال: "جاء نعي عبدالله بن مسعود إلى أبي الدرداء، فقال: ما ترك بعده مثله". قال عبيد الله بن عبد الله: مات بالمدينة ودفن بالبقيع سنة اثنين وثلاثين من الهجرة.
رضي الله عن عبدالله بن مسعود، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
أسيد بن حضير رضى الله عنه..
هو ابن سماك بن عتيك بن نافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل .
أسلم قديما، وقال : ما شهد بدرا، وكان أبوه شريفا مطاعا يدعى حضير الكتائب، وكان رئيس الأوس يوم بعاث فقتل يومئذ قبل عام الهجرة بست سنين وكان أسيد يعد من عقلاء الأشراف وذوي الرأي .
قال محمد بن سعد : آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين زيد بن حارثة، وله رواية أحاديث، روت عنه عائشة، وكعب بن مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ولم يلحقه .
وذكر الواقدي أنه قدم الجابية مع عمر، وكان مقدما على ربع الأنصار، وأنه ممن أسلم على يد مصعب بن عمير، هو وسعد بن معاذ .
قال أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم الرجل أبو بكر . نعم الرجل عمر، نعم الرجل أسيد بن حضير أخرجه الترمذي وإسناده جيد .
وروي أن أسيدا كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن .
ابن إسحاق : عن يحيى بن عباد بن عبد الله، عن عائشة قالت : ثلاثة من الأنصار من بني عبد الأشهل لم يكن أحد يعتد عليهم فضلا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر، رضي الله عنهم .
وقال ابن إسحاق : أسيد بن حضير نقيب لم يشهد بدرا، يكنى أبا يحيى . ويقال : كان في أسيد مزاح وطيب أخلاق .
روى حصين، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أسيد بن حضير - وكان فيه مزاح - أنه كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فطعنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعود كان معه، فقال : أصبرني، فقال : اصطبر، قال : إن عليك قميصا وليس علي قميص، قال : فكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصه، قال : فجعل يقبل كشحه ويقول : إنما أردت هذا يا رسول الله .
أبو صالح كاتب الليث : حدثنا يحيى بن عبد الله بن سالم، عن نافع، عن ابن عمر قال : لما هلك أسيد بن الحضير، وقام غرماؤه بمالهم، سأل عمر في كم يؤدى ثمرها ليوفى ما عليه من الدين . فقيل له : في أربع سنين، فقال لغرمائه : ما عليكم أن لا تباع، قالوا : احتكم، وإنما نقتص في أربع سنين، فرضوا بذلك، فأقر المال لهم، قال : ولم يكن باع نخل أسيد أربع سنين من عبد الرحمن بن عوف، ولكنه وضعه على يدي عبد الرحمن للغرماء .
عبد الله بن عمر : عن نافع، عن ابن عمر قال : هلك أسيد، وترك عليه أربعة آلاف، وكانت أرضه تغل في العام ألفا، فأرادوا بيعها، فبعث عمر إلى غرمائه : هل لكم أن تقبضوا كل عام ألفا ؟ قالوا : نعم .
قال يحيى بن بكير : مات أسيد سنة عشرين وحمله عمر بين العمودين عمودي السرير حتى وضعه بالبقيع ثم صلى عليه، وفيها أرخ موته الواقدي وأبو عبيد وجماعة .
وندم على تخلفه عن بدر، وقال : ظننت أنها العير، ولو ظننت أنه غزو ما تخلفت . وقد جرح يوم أحد سبع جراحات .
المهديون كم تأثرت بهم فى حياتى، المهديون سريعو العودة سريعو الأوبة، سريعو الهداية.
اللهم إنى أسألك أن تكتبنى وكل أحبابى وإخوانى مع الهادين المهديين.
مع العائدين، مع المتمسكين بالحق، مع الأوابين، مع المتضرعين.
اللهم ثبت الإيمان فى قلوبنا، واجعلنا من أسباب الهداية للعباد، واستعملنا فى الهداية، وتوفنا، وأنت راض عنا.
كنا فى معية الحبيب صلى الله عليه وسلم مع المهديين، فما أجمل أن نبحث عن هؤلاء الكبار!!
كونوا مع الباحثين عن الحق، كونوا مع المهديين، وتذكروا هذه الآية القرأنية العظيمة:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ}