الفعل: فَـــــشَـــر

شعر وشعراء
طبوغرافي

اللغة كائن حيّ، تحيا على ألسنة الناس، ويحيا بها الناس أيضًا؛ إذ إنها وسيلة التواصل بين البشرية جميعًا، ولذلك أشبهت الهواءَ الذي لا غنى للإنسان عنه، ومن هنا يأتي هذا المقال بعنوان "نسمات لغوية"، نسعى فيه جاهدين لتقديم فائدة لغوية في لغتنا العربية.
ولأن اللغة كائن حي؛ فكثيرًا ما نستخدم في حياتنا اليومية تعبيراتٍ وألفاظًا نعتقد أنها منبتّة الصلة عن الفصحى، ولكنها في الحقيقة من أصل فصيح في لغتنا العربية. من هذا استخدامنا في العامية المصريّة للفعل (فَشَر) بمشتقاته، فنقول: فَشَر، يَفْشُر، هذا فَشْر، وهو فَشَّار.


وهذه الكلمة لم ترد في المعاجم العربية القديمة، ولكن بعض المعاجم الحديثة كمحيط المحيط، والمعجم العربي الأساسي، ومعجم اللغة العربية المعاصرة، والمكنز الكبير لم تجد بدًّا من إضافة الكلمة إليها، بعد أن صار لها ذيوع وانتشار أخذت به طابعًا حضاريًّا، حيث جاء فيها:
"فشَرَ يَفشُر، فَشْرًا، فهو فاشِر. فشَر الشَّخصُ: كذب وادّعى باطلاً... وفشَّار: كثير الكذب".


والحقيقة أن هذا الفعل جاء من الفعل العربي الأصيل: (فَــجَــرَ)، جاء في المعجم الوسيط: "(فَجَرَ) فَجْرًا وفُجُورًا: انْبَعَثَ فِي الْمعاصِي غير مكترث. وَ_أمر الْقَوْم: فسد، و_فِي يَمِينه: كذب..."


واستشهد ابن منظور في لسان العرب بقول أبي ذؤيب:
"وَلَا تَخْنُوا عَلَيَّ وَلَا تَشِطُّوا ... بقَوْل الفَجْرِ، إِنَّ الفَجْر حُوبُ"
ثم قال: "يُرْوَى: الفَجْر والفَخْر، فَمَنْ قَالَ الفَجْر فَمَعْنَاهُ الْكَذِبُ، وَمَنْ قَالَ الفَخر فَمَعْنَاهُ التَّزَيُّد فِي الْكَلَامِ..."
ولمعرفة التطور التاريخي للكلمة، نعلم أن صوت الجيم في العربية الفصحى صوت مزدوج يبدأ من الدال وينتهي بصوت الشين المجهورة التي تسمى بالجيم الشامية؛ ومن هنا جاء تعبير: "تعطيش الجيم" أي إعطاؤها شينًا مجهورة. أما الجيم الفصيحة القرآنية فهي صوت مزودج كما قلنا هكذا: (دِچ).


والذي حدث هنا كما يخبرنا الدكتور رمضان عبد التواب –رحمه الله- في كتابه التطور اللغوي، أن هذا الصوت المزدوج في اللهجات العربية ينحل في الاستعمال إلى أحد عنصريه إلى الدال تارة، وإلى الشين تارة أخرى، كما روي عن قبيلة تميم أنهم قالوا: "أشاءك" في "أجاءك" أي "ألجأك، و"الإشاءة" في "الإجاءة" أي الاضطرار.


ومن ثمّ فقد تحوّل الفعل (فجر) بمشتقاته في نطق أهل العربية إلى (فشر) واشتق منه: يفشُر، وفشًّار في العاميات، حتى اتخذت المادة شخصيتها المستقلة، فأُدخلت في المعاجم باعتبارها لفظًا مولّدًا أو محدثًا، وما هو في الأصل إلا لفظ (فجر)، والله تعالى أعلى وأعلم.