فَضْفَضَةٌ أَدَبيَّةٌ وَحْيُ الرسالة

قصص وروايات
طبوغرافي

ثلاثون كاتباً، على الأقل، كانوا وراء تكوين ذوقي الأدبي وأسلوبي في الكتابة ؛ أما آرائي وأفكاري فأنا مدينٌ بها ـ بعد تأملاتي طبعاً ـ لكل من قرأت له في أيِّ يومٍ حرفاً. وكان الأستاذ أحمد حسن الزيات ( 1885 ـ 1968 ) أحدَ أكثرِ هؤلاء الكتاب تأثيراً. لم أعرفه مبكراً مثل طه حسين، ولا متأخراً مثلَ أحمد أمين، وجاءت معرفتي به في المرحلة الجامعية ؛ حين وقع بين يديَّ، مصادفةً، الجزء الثاني من كتابه الرائع البديع ( وحي الرسالة ).

كان ( وحي الرسالة ) اكتشافاً أسلوبياً مذهلاً، وكنزاً أدبياً ثميناً بكل ما تعنيه الكلمة، وجاءت طريقة صاحبه وسطاً بين مائية المنفلوطي، صاحب ( النظرات )، وهلامية الرافعي، صاحب ( وحي القلم ) وإن كان ثلاثتهم من أكبر أعلام مدرسة البيان في نثرنا العربي الحبديث. ونقلني من الجملة الصحفية السهلة السريعة إلى العبارة البلاغية الرائقة الأنيقة. وعرفت معه نمطاً مختلفاً من القول، ونموذجاً مغايراً من الأداء، وأسلوباً مبايناً من التعبير !
كان يبدو وكأنه يكتب بالقلم والمسطرة، وتجيء مقالاتُه كلُّها مهندسةً مقسمة ؛ يعتني فيها صاحبها بالحرف والمقطع والكلمة، تماماً كما يعتني بالجملة والعبارة والفقرة. فلا تثقل كلمةٌ وتخف كلمة، ولا تطول عبارةٌ وتقصر عبارة، ولا يوضع جزءٌ من الجملةِ نشازاً دون جزءٍ آخرَ يقابلُه ويساندُه، ويشكِّلُ معه في خاتمة المطاف عملاً فنياً جمالياً أساسه التناسق والتعادل. وقد يأخذ بعض النقاد على هذه الطريقة شدة عنايتها بالشكل وفرط اهتمامها بالإطار، فيخف بها الزادُ الفكريُّ أحيانا، ويتضاءل المضمون أحياناً أخرى، بيد أنها تبقى رغم ذلك كله باهرةً بروعة بيانها، وأخَّاذةً بإشراق صياغتها ؛ وتوشك أن تكون شيئاً يشبه الشعرَ في بعض ما عالجه صاحبها من موضوعاتٍ عاطفية ووصفية.

يقع كتاب ( وحي الرسالة ) في أربعة أجزاء، ويضم بين دفتيه مئات المقالات التي كان يكتبها الزيات في افتتاحية مجلة ( الرسالة )، التي أنشأها سنة 1933، وظلت تصدر بعد ذلك لمدة عشرين عاماً، وهي كما وصفها بنفسه، فصولٌ في الأدب والنقد والسياسة والاجتماع، أختم الحديث عنها بما كتبه ذات يومٍ عن ( رمضان ):
" نعم رمضان ! ولا بدَّ من رمضانَ بعد أحد عشَرَ شهراً قضاها المرءُ في جهاد العَيشِ، مستكلِبَ النفسِ مستأسدَ الهوى متنمِّرَ الشهوة، ليوقظَ رواقِدَ الخير في قلبه، ويُرهِفَ أحاسيسَ البرِّ في شعوره، ويُرجِعَ رُوحَه إلى منبعها الأزليِّ الأقدس ؛ فتبرَأَ من أوزار الحياة، وتَطْهُرَ من أوضار المادة، وتتزود من قوى الجمال والحق والخير ما يُمسكها العامَ كلَّه عن فتنة الدنيا ومحنة الناس.

فرمضان رياضةٌ للنفس بالتجرد، وثقافةٌ للرُوح بالتأمل، وتوثيقٌ لما وهَى بين القلب والدين، وتقريبٌ لما بَعُدَ بين المرفَّه والمسكين. وتأليفٌ لما نفَرَ من الشملِ الجميع، وتنديةٌ لما يبس من الرحم القريبة، ونفْحةٌ من نفحات السماء ؛ تفعم دنيا المسلمين بعبير الخُلدِ وأنفاس الملائكة " !
هذا.. والكتاب تحفةٌ أدبيةٌ نادرة، لا تصفه غيرُ قراءته، وأنا أنصح المتأدبين بمطالعته والمتعة به، وأتمنى على هيئة الكتاب، أو هيئة قصور الثقافة، أن تعيد نشره فيما تخرجه للناس من إصدارات، وهو خيرٌ ألف مرةٍ من أكثر ما يغرق المكتبات والأرصفة ولا يساوي وزنه تراباً !!