د. شعبان عبد الجيد
دكتوراه في الدراسات الأدبية
بمرتبة الشرف الأولى
في الفترة التي أخذت أتابع خلالها الجرائد اليومية والأسبوعية ــ أواخر السبعينيات من القرن العشرين ــ كانت لغة الصحافة قد وصلت إلى أعلى درجات السهولة والتيسير، وإن كانت، في الوقت نفسه، قد بدأت تهوِي إلى أولى دركات الميوعة والتسطيح .
أيامها أيضاً ــ فما بالك الآن ؟ ــ كانت كتب المدرسة، في مجملها، سقيمة اللغة فقيرة الخيال . كأن أصحابها قد تعمدوا صياغتها في قوالب لغوية جافةٍ وباردة، وبصورةٍ عقليةٍ ومنطقيةٍ صارمة، يذهبون في ذلك إلى أن لغة العلم لا بدَّ أن تكون مُحكمَةٌ وقاطعة، ولا يؤمنون أنها يمكن أن تكون في الوقت ذاته مثيرةً وممتعة .
وأنا أزعم أن مؤلفي تلك الكتب، أو معظمهم على الأقل، لم يكونوا من الأدباء، ولا من ذوي الحس الأدبي، وكنت أشعر أن كلامهم كالماء المائع، لا طعم له ولا لون ولا رائحة، أو أنه مثل أكل المستشفيات، قد يصلح للمرضى الضعفاء المهازيل، ولكنه لا يصلح ولا يكفي الأصحاء الأشداء ذوي العافية .
وأذكر أن " ليسينج "، الأديب الألماني الكبير، كانت قد ظهرت عليه علامات النجابة منذ الصغر، وكان يقرأ ويبحث على نحوٍ لا يُصدَّق، وقال عنه أحد أساتذته عندما كان تلميذاً : إنه جَوَادٌ شابٌّ، ينبغي أن تضاعَفَ له حصته من الشعير ! . كان يرى أن كل ما هو مطبوعٌ صالح للقراءة . ويجب أن يقرأ المرء ما لا يُجبر على معرفته بخاصةٍ وما لا يعرفه الآخرون .
وكان أساتذتنا ــ سامحهم الله وغفر لهم ــ يضيِّقون واسعاً، ويقتصرون فى كلامهم معنا على شرح ما هو مقرر فى كتب الوزارة، وهي مثل بعض المكسرات: قنطار خشب ودرهم حلاوة، وشذ منهم من كان يحدثنا عن قصة قرأها، أو مقال طالعه، أو قصيدة أعجب بها . لقد حبسونا فى سجن ضيق، وحجبوا عنا نور المعرفة، وحرمونا من متعة القراءة الحرة ولذة التأمل الطليق، وجعلونا نظن أن العلم كله إنما هو ما يدرِّسونه لنا وأن الله لم يخلق كتباً أخرى غير الكتب الدراسية ــ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً !!!
أما كتب اللغة العربية، بما فيها من شعر ونثر وقصص وروايات، فقد كانت نقطة فى بحر وغرفة من محيط، وفقدت هى الأخرى قيمتها الفنية وتأثيرها الجمالى حين جعلوها مادة للاستظهار والامتحان، ولم يحسنوا كثيراً انتقاء موضوعاتها واختيار أساليبها، فجاء أكثرها مهلهَلَ النسج مفكك البناء، أشبهَ شىء بثوب البهلوان، كله بقع من متنافر الألوان وغريب الأقمشة .
وعجبت كثيراً حين قرأت منذ سنوات كتاب المطالعة الذي كان مقرراً على تلاميذ السنة الرابعة من المرحلة الابتدائية، في أربعينيات القرن الماضي، ورأيت مافيه من غزارة المادة وتنوع الموضوعات وإشراق الأساليب، وحسن الإخراج، وزاد عجبي حين علمت أن طلاب المدارس الثانوية في تلك الفترة كانوا يتسلمون كتاب " الشوقيات المختارة "، وفيه أروع وأمتع ما نظم أمير الشعراء، لا يُمتحنون فيه، ولا يُسألون عنه سؤال الملكين، وإنما يقرءونه للمتعة الأدبية الخالصة، واللذة الفنية المحضة، حتى يسمو ذوقهم، وترتقي أساليبهم، ويثرى معجمهم .
لم أجد نفسى كثيراً فى كتب المدرسة، ولم أحس بمتعة ولا راحةٍ مع علم يقترن بالتخويف والترهيب، ويرتبط بالإجبار والإكراه، ويذكرني بالأدوية المرة التي كنا نتجرعها مرغمين، بحجة أنها سوف تشفي أمراضنا وتعالج أسقامنا، فضقت ذرعاً بكل ماهو معقَّد ومربك، وأدرتُ ظهرى لما كان يَغمُض علىَّ او يستشكل على عقلى، وكنت أكتفي من المدرسة بما يلذني ويمتعني، وقليلٌ ما هو، وانطلقت أبحث عن الكلام السهل الواضح الجميل، وأعدو وراء كل ما يمتع العقل ويبهج النفس ويثير الخيال !